أهم الأحداث السيرية التي وقعت في شهر المحرم
شهر المحرم هو أحد الشهور القمرية المعروفة، وهو أول شهور السنة الهجرية، وقد شهد المحرم على مر التاريخ - كغيره من شهور السنة - الكثير من الأحداث المهمة، وسنكتفي هنا بأهم ما جرى من الأحداث خلال هذا الشهر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فمنها:
حصار الشِّعب
ففي شهر المحرم من السنة السابعة بعد البعثة النبوية، كان حصار الشعب المعروف بشعب أبي طالب أو شعب بني هاشم.
وحاصل ذلك أن قريشا لما رأت أن الإسلام يتزايد، وأن بني هاشم وبني المطلب مصرون على حماية النبي صلى الله عليه وسلم، والدفاع عنه، رأت أن تطور من وسائل ضغطها على بني هاشم وبني المطلب ليتراجعوا عن حمايته، فاجتمع سادة قريش على أن لا يبيعوهم شيئا، ولا يبتاعوا منهم، ولا يتزوجوا منهم ولا يزوجوهم، وأن لا يزوروهم ولا يسمحوا لهم بزيارتهم، ثم أودعوا هذا القرار في صحيفة علقت داخل الكعبة، لتعظيم أمرها وللتحذير من مخالفة ما ورد فيها.
ثم بذل صناديد قريش ما بوسعهم في أن لا يصل إلى أهل الشعب طعام ولا غيره مما يحتاجوان، فلقوا في هذا الحصار من أصناف البلاء والإهانة ما لا قِبل لأحد به، و هنا أنشأ ابو طالب قصيدته التي منها:
ولما رأيت القوم لا وُدَّ فيهم
وقد قطعوا كل العرى والوسائل
وقد صارحونا بالعداوة والأذى
وقد طاوعوا أمر العدو المزايل
صبرت لهم نفسي بسمراء سمحة
وأبيض عضب من تراث المقاول
وأحضرت عند البيت رهطي وأسرتي
وأمسكت من أثوابه بالوصائل
أعوذ برب الناس من كل طاعن
علينا بسوء أو ملح بباطل
ومن كاشح يسعى لنا بمغيظة
ومن ملحق في الدين ما لم يحاول
ثم بقي بنو هاشم وبنو المطلب محاصرين في هذا الشعب وعلى هذه الحال، مدة سنتين، وقيل ثلاث سنين، وهو الأرجح، يقول العالم الجليل شيخنا محمد الحسن ولد أحمد الخديم:
وأمد الحصار في الشعب إلى
حولين والأقوى ثلاثا وصلا
وكانت بداية تفريج كربة بني هاشم وبني المطلب، حين أخذ هشام بن عمرو العامري على عاتقه مهمة نقض هذه الصحيفة، وسعى في ذلك حتى أقنع كلا من: زهير بن أبي أمية، والمطعم بن عدي، وأبا البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود، وقد عمل هؤلاء الخمسة سرا حتى اتفقوا على خطة يتم بموجبها نقض الصحيفة وعودة أهل الشعب إلى ما كانوا عليه، وهي الخطة التي لم يأل أبو جهل بن هشام جهدا في سبيل إفشالها، لولا حزم القوم وإحكامهم خطتهم، وقد تحقق مسعى هؤلاء، بأن رجع بنو هاشم وبنو المطلب إلى ما كانوا عليه قبل الصحيفة؛ فعادوا إلى مكة معززين مكرمين.
وقد أنعم الله على اثنين من هؤلاء النفر بالإسلام، وللعالم الجليل البشير بن عبد الله، المعروف بالبشير ولد امباريكي:
بصحبة النبي فاز اثنان
من ناقضي الصحيفة الأعيان
هشامهم سليل عمرو العامري
وهو بنقضها أوَلّ آمر
ونجل عمة النبي زهير
نجل أبي أمية لا غير
تحويل القِبلة
وفي شهر المحرم من ثانية سني الهجرة النبوية، كانت حادثة تحويل القبلة، وحاصل ذلك أنه بينما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر في مسجد بني سلمة، إذ نزل عليه الوحي بتحويل القبلة من المسجد الأقصى في القدس الى الكعبة الشريفة في مكة المكرمة، فقد أنزل جل وعلا قوله: (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولنيك قبلة ترضاها فولّ وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون).
وبتحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى مكة حصلت القطيعة التامة بين المسلمين واليهود، حيث كان هؤلاء يقللون من شأن المسلمين إذ يرون فيهم تبعية لهم، بسبب توجههم نحو القدس التي كانوا هم ايضا يستقبلونها في صلواتهم، وهو ما يفسرونه بعدم استقلالية المسلمين.
ومنهم من يقول إن تاريخ حادثة تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى مكة المكرمة كانت في شهر شعبان من السنة الأولى للهجرة النبوية.
سرية أبي سلمة بن عبد الأسد إلى بني أسد
وفي شهر المحرم من السنة الرابعة للهجرة كانت سرية أبي سلمة بن عبد الأسد إلى بني أسد بن خزيمة، وسبب هذه السرية هو أن طليحة وسلمة ابني خويلد كانا يعدان للانقضاض على المسلمين بالمدينة، وجمعا لذلك قومهم (بني أسد) وغيرهم ممن أطاعهم من العرب، فما إن جاءت عيون المدينة بالخبر حتى بعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم أبا سلمة بن عبد الأسد رضي الله عنه على رأس مائة وخمسين مقاتلا من المهاجرين والأنصار.
خرج أبو سلمة في أصحابه حتى وافى أرض بني أسد الذين تفرقوا في الأرض عندما سمعوا بقدوم أبي سلمة وأصحابه، الذين أصابوا غنائم كثيرة، وللعالم الجليل غالي ولد المختار فال في تبصرة المحتاج إلى بعوث صاحب المعراج:
ثم ابن عبد الأسد البر الأمين
أول آخذ كتاب باليمين
إلى طليحة فتى خويلد
أشجع فارس بحي أسد
مع أخيه حزّبا جموعا
لحرب أفضل الورى جميعا
فجاءهم وجمعهم قد ذهبا
فساق شاءهم وإبْلا نهبا
فكانت هذه السرية ضربة استباقية لبني أسد الذين كانوا يخططون لغزو المدينة والقضاء على الدعوة الإسلامية، كما أنها كانت رسالة إلى سائر قبائل العرب التي أصبحت تستعد لغزو المدينة بعد غزوة أحد، وما أصاب المسلمين فيها.
سرية محمد بن مسلمة إلى القرطاء
وفي شهر المحرم من سادسة سني الهجرة النبوية كانت سرية محمد بن مسلمة إلى بني بكر بالقرطاء، بصحراء نحد، وذلك لمحاربتهم للدعوة الإسلامية وإعانتهم أعداءها، وكانت هذه أول سرية بعد غزوتي الأحزاب وقريظة.
خرج محمد بن مسلمة الأنصاري الاوسي رضي الله عنه يقود ثلاثين راكبا، يؤم القرطاء، حيث بنو بكر، وواصل سيره حتى أغار عليهم، فهربوا وغنم ابن مسلمة وأصحابه نعما وشاء، وفي طريقهم لقوا ثمامة بن أثال أخا بني حنيفة، فأسروه وقدموا به إلى المدينة، وكان قد خرج متنكرا لمحاولة اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم بأمر من مسيلمة الكذاب، فلما أتوا به ربط بسارية من سواري المسجد، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج إليه فيقول: ما عندك يا ثمامة فيرد عليه قائلا: عندي خير يا محمد، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فيتركه، إلى أن أمر بإطلاق سراحه، فلما أطلق سراحه ذهب إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل، ثم جاءه فأسلم، وقال: والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إليّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إليّ، ووالله ما كان على وجه الأرض دين أبغض إليّ من دينك، فقد أصبح دينك أحبّ الأديان إليّ، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة.
ثم سأل ثمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم هل يتم عمرته، فأجابه بأن يتمها، فلما قدم على قريش قالوا صبأت يا ثمامة، قال: لا والله، ولكني أسلمت مع محمد صلى الله عليه وسلم، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم انصرف ثمامة إلى بلاده، ومنع الحمل إلى مكة، حتى جهدت قريش، وكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه بأرحامهم أن يكتب إلى ثمامة ليسمح بحمل الطعام إليهم، فاستجاب النبي صلى الله عليه وسلم لطلبهم.
وللعالم الجليل كراي ولد أحمد يوره في معرض قصة ثمامة بن أثال من نظم هذه السرية:
وأخذوا في سيرهم ثمامه
نجل أثال صاحب اليمامه
وكان ذا حرص على اغتيال
طه بما يرى من احتيال
أغراه كذابهمُ مسيلمه
على اغتياله بكل كلمه
وإذ أتى ربطه في المسجد
وهو لخالق الورى لم يسجد
وإذ به يمر ذو الإمامه
يقول ما عندك يا ثمامه
يقول إن أقتل فإني ذو دم
وإنني لشاكر إن تنعم
وإن ترد مالا فسل ما تبتغي
من مبلغ تفز بذاك المبلغ
وذات يوم حله فاغتسلا
وفاه بالشهادتين عسلا
وقال خيلك أتتني وأنا
أريد عمرة بها قلبي اعتنى
فهل أتمها فقال نعم
وعندما أتى لذاك الحرم
قالوا صبأتَ قال ما صبأتُ
بالله والرسول قد آمنت
ثمت آلى قسمى ذا بِر
أم لا تجيء حبة من بُر
لساكني مكة حتى يسلموا
وذاك إيلاء لديهم مؤلم
غزوة خيبر
وفي شهر المحرم من سنة سبع للهجرة النبوية كانت غزوة خيبر، وحاصل الأمر أنه لما كانت الهدنة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش، وبعد أن أمنت المدينة صولة قريش، رأى صلى الله عليه وسلم أن يوجه اهتمامه إلى أعداء الدعوة الإسلامية الألداء، وخاصة من يقيمون في المناطق المحيطة بالمدينة، فكان من بين ألائك سكان خيبر الذين لم يخفوا عداءهم للإسلام ومحاربتهم للدعوة الإسلامية، واستخدموا لذلك علاقاتهم الواسعة، وأموالهم وثرواتهم الطائلة.
خرج النبي صل الله عليه وسلم إلى خيبر في ألف وستمائة، وقد استخلف على المدينة نميلة بن عبد عبد الله الليثي، وسار بالجيش حتى نزل الرجيع ليحول بين خيبر وغطفان، وبالتالي يمنع دعم الثانية للأولى، وبدأ صلى الله عليه وسلم يسأل ربه خير قرية خيبر
ويستعيذ من شرها، وبعد سبعة أيام من الحصار والكر والفر، قال صلى الله عليه وسلم لأعطين الراية غدا عبدا يحب الله ورسوله يفتح الله على يديه، فكان ما ساقه لنا العالم الجليل محمذن ولد محنض باب، في نظمه الرائق "قرة العينين في غزوات سيد الكونين" حين قال:
فباتت الصحب الكرام تعتبر
في من ستدفع له وتنتظر
ثم غدوا على النبي طه
وكلهم يأمل أن يُعطاها
لكنه سأل عن أبي تراب
وهو بالرمد إذ ذاك مصاب
فأرسلوا بأمره إليه
وإذ أتى بصق في عينيه
فصحّتا ودفع الراية له
فخرج الإمام للمقاتله
يسوق للأعداء في ظل العُقاب
رايته أدهى العذاب والعِقاب
ثم إن أهل خيبر أصابهم ذعر شديد، وقُذف الرعب في قلوبهم، واستبسل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فمات الكثير من قواد العدو وأيقنوا بالهلكة، وعندها سألوا النبي صلى الله عليه وسلم الصلح فصالحهم، وصادف فتح خيبر قدوم جعفر بن أبي طالب وأصحابه رضي الله عنهم، ففرح صلى الله عليه وسلم كثيرا، وقال: والله ما أدري بأيهما أسر بفتح خيبر أم بقدوم جعفر.
ولما علم أهل فدك صالحوه صلى الله عليه وسلم على مثل ما صالحه عليه أهل خيبر، والشيء ذاته هو ما حصل مع سكان وادي القرى حين مر بهم في طريقه راجعا إلى المدينة.